فصل: قال التستري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1)}
قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ} تقدَّم نظيرُها في أولِ الرعد، والإِشارة بـ {تلك} إلى ما تضمَّنته السورةُ، ولم يذكرْ الزمخشري غيرَه، وقيل: إشارةٌ إلى الكتب السالفة، وتنكيرُ القرآنِ للتفخيم.
قوله تعالى: {رُّبَمَا} رُبَ: فيها قولان، أحدُهما: أنها حرفُ جرٍّ، وزعم الكوفيون وأبو الحسن وابن الطَّراوة أنها اسم، ومعناها التقليلُ على المشهور، وقيل: تفيد التكثير، وقيل: تفيد التكثير في مواضعِ الافتخار كقوله:
فيا رُبَّ يومٍ قد لَهَوْتُ وليلةٍ ** بآنسةٍ كأنها خطُّ تِمْثالِ

وقد أُجيب عن ذلك: بأنها لتقليل النظير، ودلائلُ هذه الأقوال في النحو، وفيها لغاتٌ كثيرةٌ أشهرها: رُبَ بالضم والتشديد، أو التخفيف، وبالثانية قرأ نافع وعاصم، {ورَبَ} بالفتح مع التشديد والتخفيف، ورُبْ ورَبْ بالضم والفتح مع السكون فيهما، وتتصل تاءُ التأنيث بكلِّ ذلك، وبالتاء قرأ طلحةُ بن مصرف وزيدُ بن علي: {رُبَّتَما،} وإذا اتصلت بها التاء جاز فيها الإِسكانُ والفتح كثُمَّت ولات، فتكثر الألفاظ، ولها أحكامٌ كثيرةٌ منها: لزومُ تصديرِها، ومنها تنكيرُ مجرورِها وقوله:
رُبَّما الجامِلِ المُؤَبَّلِ فيهمُ ** وعَنَاجيجُ بينهنَّ المهَارى

ضرورةٌ في رواية مَنْ جَرًّ الجامِل، وتَجُرُّ ضميرًا لازمَ التفسير بنكرةٍ بعده، يُستغنى بتثيِتها وجمعِها وتانيثِها عن تثنية الضمير وجمعِه وتأنيثِه كقولِه:
ورُبَّه عَطِبًا أَنْقَذْتُ مِنْ عَطَبِهْ

والمطابقةُ نحو: رُبَّهما رجلين نادرةٌ، وقد يُعطف على مجرورِها ما أُضيف إلى ضميرِه نحو: رُبَّ رجلٍ وأخيه، وها يلزم وَصْفُ مجرورِها، ومُضِيُّ ما يتعلَّق به؟ خلاف، والصحيحُ عدمُ ذلك. فمِنْ مجيئه غيرَ موصوفٍ قولُ هندٍ:
يا رُبَّ قائلةٍ غدًا ** يا لهفَ أمِّ مُعاويهْ

ومن مجيء المستقبلِ قولُه:
فإنْ أَهْلَكْ فربَّ فتىً سيبكيْ ** عليَّ مهذَّبٍ رَخْصِ البَنانِ

وقولُها:
يا رُبَّ قائلةٍ غدًا...

البيت.
وقول سليم:
ومعتصمٍ بالحيِّ من خشية الرَّدى ** سيُرْدى وغازٍ مُشْفِقٍ سَيَؤُوب

فإنَّ حرف التنفيس وغدًا خَلَّصاه للاستقبالِ.
وما في {رُبما} تحتمل وجهين، أظهرُهما: أنها المهيِّئَةُ، بمعنى: أن رُبَّ مختصةٌ بالأسماء، فلمَّا جاءت ما هَيَّأت دخولَها على الأفعال، وقد تقدَّم نظيرُ ذلك في إنَّ وأخواتها، وتَكُفُّها أيضًا عن العمل كقولِه:
رُبَّما الجامِلُ المُؤَبَّلُ

في روايةِ مَنْ رَفَعه، كما جَرَى ذلك في كاف التشبيه، والثاني: أنَّ ما نكرةٌ موصوفةٌ بالجملةِ الواقعة بعدها، والعائدُ على ما محذوفٌ، تقديره: رُبَّ شيءٍ يَوَدُّه الذين كفروا.
وقوله: {يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ} مَنْ لم يلتزمْ مُضِيَّ متعلِّقِها لم يَحْتَجْ إلى تأويلٍ، ومَنْ التَزَم ذلك قال: لأن المُتَرَقَّب في أخبار الله تعالى واقعٌ لا محالةَ، فعبَّر عنه بالماضي تحقيقًا لوقوعِه، كقوله: {أتى أَمْرُ الله} [النحل: 1]، ونحوِه.
قوله: {لَوْ كَانُواْ} يجوز في {لو} أن تكونَ الامتناعيةَ، وحينئذٍ يكون جوابُها محذوفًا. تقديره: لو كانوا مسلمين لسُرُّوا بذلك، أو لَخَلصوا ممَّا هم فيه، ومفعولُ {يَوَدُّ} محذوفٌ على هذا التقديرِ: أي: رُبَّما يودُّ الذين كفروا النجاةَ، دَلَّ عليه الجملةُ الامتناعية.
والثاني: أنها مصدرية عند مَنْ يرى ذلك كما تقدَّم تقريرُه في البقرة، وحينئذٍ يكون هذا المصدرُ هو المفعولَ للوَدادة، أي: يَوَدُّون كونَهم مسلمين، إنْ جعلنا ما كافةً، وإنْ جعلناها نكرةً كانت لو وما في حَيِّزِها بدلًا مِنْ ما.
قوله تعالى: {ذَرْهُمْ}: هذا لا يُستعمل له ماضٍ إلا قليلًا استغناءً عنه بـ: تَرَكَ بل يُستعمل منه المضارعُ نحو: {وَيَذَرُهُمْ} [الأعراف: 186]، ومن مجيء الماضي قولُه عليه السلام: «ذَرُوا الحبشة ما وَذَرَتْكم» ومثله: دَعْ ويَدَعُ، ولا يقال وَدَعَ إلاَّ نادرًا، وقد قرئ {ما وَدَعك} مخفَّفًا، وأنشدوا قوله:
سَلْ أميري ما الذي غيَّرهْ ** عن وصالي اليومَ حتى وَدَعَهْ

و{يَأْكُلُواْ} مجزومٌ على جوابِ الأمر، وقد تقدَّم أنَّ تَرَكَ وذَرْ يكونان بمعنى صَيَّر، فعلى هذا يكون المفعولُ الثاني محذوفًا، أي: ذَرْهُمْ مُهْمِلين، ولا يكونوا هو الثاني ولا حالًا؛ إذ كان يجبُ رفعه. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1)}
أسمعهم هذه الحروف مُقَطَّعَةً على خلاف ما كانوا يسمعون الحروف المنظومة في الخطاب، فأعرضوا عن كل شيءٍ وسمعوا لها، ونبههم القرآنُ إلى أن هذه التي يسمعونها آياتُ الكتاب، فقال لهم لما حضرت ألبابُهم، واستعدت لسماع ما يقول آذانُهم: {تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ}.
ووصف القرآن بأنه مبين؛ لأنه يُبَينُ للمؤمنين ما يسكن قلوبهم، وللمريدين ما يقوي رجاءَهم، وللمحسنين ما يهيج اشتياقهم، وللمشتاقين ما يثير لواعجَ أسرارهم، ويبيِّن للمصطفى- صلى الله عليه وسلم- تحقيقَ ما مَنَعَ غَيْرِه بعد سؤاله، ألم تر إلى ربك قال لموسى عليه السلام: {لن تراني} بعد سؤاله: {رَبِّ أَرِنِى أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143].
{رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)}
إذا عرفوا حالهم وحال المسلمين يوم القيامة لعلموا كيف شقوا، وأي كأس رشفوا، ويقال إذا صارت المعارفُ ضروريةً أحرقَتْ نفوسَ أقوامٍ العقوبةُ، وقطَّعَتْ قلوبَهم الحَسْرَةُ.
ويقال لو عرفوا حالَهم وحالَ المؤمنين لَعَلِمُوا أن العقوبةَ بإهلاكهم حاصلةٌ.
{ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)}
قيمة كل امرئٍ على حسب هِمَّتِه؛ فإذا كانت الهمةُ مقصورةً على الأكل والتمتع بالصفة البهيمية لا يُحَاسَبُ، وعلى العقل لا يُطَالَبُ: فالتَّكليفُ يتبعه التشريف! وغدًا سوف يعلمون. اهـ.

.قال التستري:

قوله تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأمل فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [3]. قال: إذا اجتمعت أربعة في عبد قيل له: إنك لن تنال شيئًا من هذا الأمر، إذا أحب أن يأكل شيئًا طيبًا، ويلبس ثوبًا لينًا، وينفذ أمره، ويكثر شيئه يقال: هيهات هذا الذي قطع الخلق عن الله تعالى.
وقد حكي أن الله أوحى إلى داود عليه السلام: حذر وأنذر أصحابك أكل الشهوات، فإن القلوب المعلقة بشهوات الدنيا عقولها عني محجوبة.
وقال سهل: الأمل أرض كل معصية، والحرص بذر كل معصية، والتسويف ماء كل معصية، والقدرة أرض كل طاعة، واليقين بذر كل طاعة، والعمل ماء كل طاعة.
قال: وكان سهل يقوى على الوجد سبعين يومًا لا يأكل فيها طعامًا، وكان يأمر أصحابه أن يأكلوا اللحم في كل جمعة مرة، كيلا يضعفوا عن العبادة، وكان إذا أكل ضعف، وإذا جاع قوي، وكان يعرق في البرد الشديد في الشتاء وعليه قميص واحد، وكان إذا سألوه عن شيء من العلم يقول: لا تسألوني فإنكم لا تنتفعون في هذا الوقت بكلامي.
وفد عباس بن عصام يومًا وهو يقول: أنا منذ ثلاثين سنة أكلم الله، والناس يتوهمون أني أكلمهم. اهـ.

.تفسير الآيات (4- 8):

قوله تعالى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما هددوا بآية التمتع وإلهاء الأمل، وكان من المعلوم جدًا من أحوالهم الاستعجال بالعذاب تكذيبًا واستهزاء، كان الكلام في قوة أن يقال: فقالوا: يا أيها الذي نزل عليه الذكر! عجل لنا ما تتوعدنا به، وكان هذا غائظًا موجعًا حاملًا على تمني سرعة الإيقاع بهم، فقيل في الجواب: إن لهم أجلًا بكتاب معلوم لابد من بلوغهم له، لأن المتوعد لا يخاف الفوت فهو يمهل ولا يهمل، لأنه لا يبدل القول لديه، فليستعدوا فإن الأمر غيب، فما من لحظة إلا وهي صالحة لأن يتوقع فيه العذاب، فإنا لا نهلكهم إلا إذا بلغوا كتابهم المعلوم {وما} جعلنا هذا خاصًا بهم، بل هو عادتنا، ما {أهلكنا} أي على ما لنا من العظمة، وأكد النفي فقال: {من قرية} أي من القرى.
ولما كان السياق للإهلاك واستعجالهم واستهزائهم به، وكان تقديره سبحانه وكتُبه من عالم الغيب، اقتضى الحال التأكيد بما يدل على أنه محتوم مفروغ منه سابق تقديره على زمن الإهلاك، فأتى بالواو لأن الحال بدون الواو كالجزء من سابقها كالخبر والنعت الذي لا يتم المعنى بدونه، والتي بالواو هي زيادة في الخبر السابق، ولذلك احتيج إلى الربط بالواو كما يربط بها في العطف، فقال: {إلا ولها} أي والحال أنه لها في الإهلاك أو لإهلاكها {كتاب معلوم} أي أجل مضروب مكتوب في اللوح المحفوظ، أو يكون التقدير: فسوف يعلمون إذا جاءهم العذاب في الأجل الذي كتبناه لهم: هل يودون الإسلام أم لا؟ ثم بين الآية السابقة بقوله: {ما تسبق} وأكد الاستغراق بقوله: {من أمة} وبين أن المراد بالكتاب الأجل بقوله: {أجلها} أي الذي قدرناه لها {وما يستأخرون} أي عنه شيئًا من الأشياء، ولم يقل: تستأخر- حملًا على اللفظ كالماضي، لئلا يصرفوه إلى خطابه صلى الله عليه وعلى آله وسلم تعنتًا.
ثم لما أجابهم بهذا الجواب الدال على تمام القدرة وكمال العلم الدالين على الوحدانية، عطف على ما تقدم أنه في قوة الملفوظ قوله دالًا على تركهم الجواب إلى التعنت والسفه: {وقالوا} أي لم يجوزوا أنهم يودون ذلك، بل استمروا على العناد وقالوا: {يأيها الذي} ولما كان تكذيبهم بالتنزيل نفسه، بني للمفعول قوله: {نزل عليه} أي بزعمه {الذكر} وبينوا أنهم ما سموه تنزيلًا إلا تهكمًا، فقالوا مؤكدين لمعرفتهم بأن قولهم منكر: {إنك لمجنون} أي بسبب ادعائك أن الله أنزل عليك ذكرًا والذي تراه جني يلقى إليك تخليطًا، فكان هذا دليلًا على عنادهم، فإنهم أقاموا الشتم مقام الجواب عما مضى صنعه المغلوب المقطوع في المناظرة، تم أتبعوه ما زعموا أنه دليل على قولهم فقالوا: {لو ما} أي هلا ولم لا {تأتينا بالملائكة} دليلًا على صدقك إما للشهادة لك وإما لإهلاك من خالفك {إن كنت} أي جبلة وطبعًا {من الصادقين} فيما تقول، أي ما وجه اختصاصك عنا بنزول الملائكة عليك ورؤيتك إياهم وأنت مثلنا في الإنسانية والنسب والبلد؟ هذا بعد أن قامت على صدقه الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة التي أعظمها القرآن الداعي لهم إلى المبارزة كل حين المبكت لهم بالعجز عن المساجلة كل وقت.
ولما كان في قولهم أمران، أجاب عن كل منهما على طريق الاستئناف على تقدير سؤال من كأنه قال: ربما إذا أجابهم؟ فقيل: أجاب عن الثاني لأنه أقرب بقوله: {ما نُنزل الملائكة} أي هذا النوع {إلا} تنزلًا ملتبسًا {بالحق} أي بسبب عمل الأمر الثابت، وهو معنى ما قال البخاري في كتاب التوحيد: قال مجاهد: بالرسالة والعذاب، وأما على الرسل فبالحق من الأقوال، وأما على المنذرين فبالحق من الأفعال من الهلاك والنجاة، فلو نزلوا عليهم كما اقترحوا لقضي الأمر بينك وبينهم فهلكوا {وما كانوا} أي الكفار {إذًا} أي إذ تأتيهم الملائكة {منظرين} أي حاصلًا لهم الإنظار على تقدير من التقادير، لأن الأمر الثابت يلزمه نجاة الطائع وهلاك العاصي في الحال من غير إمهال، وكان حينئذ يفوت ما قضينا به من تأخيرهم وإخراج من أردنا إيمانه من أصلابهم، وأجاب سبحانه عن الأول بقوله مؤكدًا لتكذيبهم: {إنا نحن نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)}. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)} وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى:
اعلم أنه تعالى لما توعد من قبل من كذب الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأمل فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} أتبعه بما يؤكد الزجر وهو قوله تعالى: {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كتاب مَّعْلُومٌ} في الهلاك والعذاب وإنما يقع فيه التقديم والتأخير فالذين تقدموا كان وقت هلاكهم في الكتاب معجلًا، والذين تأخروا كان وقت هلاكهم في الكتاب مؤخرًا وذلك نهاية في الزجر والتحذير.
المسألة الثانية:
قال قوم المراد بهذا الهلاك عذاب الاستئصال الذي كان الله ينزله بالمكذبين المعاندين كما بينه في قوم نوح وقوم هود وغيرهم، وقال آخرون: المراد بهذا الهلاك الموت.
قال القاضي: والأقرب ما تقدم، لأنه في الزجر أبلغ، فبين تعالى أن هذا الإمهال لا ينبغي أن يغتر به العاقل لأن العذاب مدخر، فإن لكل أمة وقتًا معينًا في نزول العذاب لا يتقدم ولا يتأخر وقال قوم آخرون: المراد بهذا الهلاك مجموع الأمرين وهو نزول عذاب الاستئصال ونزول الموت، لأن كل واحد منهما يشارك الآخر في كونه هلاكًا، فوجب حمل اللفظ على القدر المشترك الذي يدخل فيه القسمان معًا.
المسألة الثالثة:
قال الفراء: لو لم تكن الواو مذكورة في قوله: {وَلَهَا كتاب} كان صوابًا كما في آية أخرى وهي قوله: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ} [الشعراء: 208]، وهو كما تقول: ما رأيت أحدًا إلا وعليه ثياب وإن شئت قلت: إلا عليه ثياب.
أما قوله: {مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَئخِرُونَ} ففيه مسائل:
المسألة الأولى:
قال الواحدي: من في قوله: {مِنْ أُمَّةٍ} زائدة مؤكدة كقولك: ما جاءني من أحد، وقال آخرون: إنها ليست بزائدة لأنها تفيد التبعيض أي هذا الحكم لم يحصل في بعض من أبعاض هذه الحقيقة فيكون ذلك في إفادة عموم النفي آكد.
المسألة الثانية:
قال صاحب النظم معنى سبق إذا كان واقعًا على شخص كان معناه أنه جاز وخلف كقولك سبق زيد عمرًا، أي جازه وخلفه وراءه، ومعناه أنه قصر عنه وما بلغه، وإذا كان واقعًا على زمان كان بالعكس في ذلك، كقولك: سبق فلان عام كذا معناه مضى قبل إتيانه ولم يبلغه فقوله: {مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَئخِرُونَ} معناه أنه لا يحصل ذلك الأجل قبل ذلك الوقت ولا بعده، بل إنما يحصل في ذلك الوقت بعينه، والسبب فيه أن اختصاص كل حادث بوقته المعين دون الوقت الذي قبله أو بعده ليس على سبيل الاتفاق الواقع، لا عن مرجح ولا عن مخصص فإن رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح محال، وإنما اختص حدوثه بذلك الوقت المعين لأن إله العالم خصصه به بعينه، وإذا كان كذلك، فقدرة الإله وإرادته اقتضتا ذلك التخصيص، وعلمه وحكمته تعلقا بذلك الاختصاص بعينه، ولما كان تغير صفات الله تعالى أعني القدرة والإرادة والعلم والحكمة ممتنعًا كان تغير ذلك الاختصاص ممتنعًا.
إذا عرفت هذا فنقول: هذا الدليل بعينه قائم في أفعال العباد أعني أن الصادر من زيد هو الإيمان والطاعة ومن عمرو هو الكفر والمعصية فوجب أن يمتنع دخول التغير فيهما.
فإن قالوا: هذا إنما يلزم لو كان المقتضي لحدوث الكفر والإيمان من زيد وعمرو هو قدرة الله تعالى ومشيئته.
أما إذا قلنا: المقتضى لذلك هو قدرة زيد وعمرو ومشيئتهما سقط ذلك.
قلنا: قدرة زيد وعمرو مشيئتهما إن كانتا موجبتين لذلك الفعل المعين فخالق تلك القدرة والمشيئة الموجبتين لذلك الفعل هو الذي قدر ذلك الفعل بعينه فيعود الإلزام، وإن لم تكونا موجبتين لذلك الفعل بل كانتا صالحتين له ولضده، كان رجحان أحد الطرفين على الآخر لم يكن لمرجح، فقد عاد الأمر إلى أنه حصل ذلك الاختصاص لا لمخصص وهو باطل، وإن كان لمخصص فذلك المخصص إن كان هو العبد عاد البحث ولزم التسلسل، وإن كان هو الله تعالى فحينئذ يعود البحث إلى أن فعل العبد إنما تعين وتقدر بتخصيص الله تعالى، وحينئذ لا يعود الإلزام.